خمسون يوماً من السجن الإنفرادي 7 جانفي 2021
عندما اكتسحتني حزمة الضوء معلنةً للدنيا انطلاق نهار اليوم، قدّرتُ أن خمسين ليلة قد مضت عليّ في الصمت المطبق للحبس الإنفرادي هنا بسجن البليدة العسكري.. تلتحف تفكيري وجسدي زنزانة ضيقة محوتُ فيها أياماً وليالي بساعاتها ودقائقها و هنيهاتها الطويلة التي لا تنقضي.
وقفتُ في زنزانتي
أُقلّبُ الأفكار
أنا السجين ها هنا
أم ذلك الحارسُ بالجوارْ؟
بيني وبين حارسي جدارْ
وفتحةً في ذلك الجدارْ
يرى الظلام من ورائها وارقب النهارْ
لحارسي.. ولي أنا.. صغارْ
وزوجة..ودارْ
لكنه مثلي هنا: جاء به وجاء بي قرارْ
وبيننا الجدارْ
يوشك أن ينهارْ
حدثني الجدارْ
فقال لي: إنْ ترثي لهُ
قد جاء باختيارهِ
وجئتَ بالإجبارْ
وقبل أن ينهار فيما بيننا
حدثني عن أسدٍ
سجّانهُ حمارْ*
ساعاتي هنا ممتدة متواترة بين أطراف النهار و الليل تتلاطم فيها أمواج مختلطة من الأشجان و الآمال..ثمّ تتكسّر أمواجها فجأةً على واقع جدران هذه الزنزانة القذرة، تختزل همّي في خلاصة واحدة هي أنّي ذا هنا قد وصلت بعد كل العاصفة التي هبّت عليّ منذ احتجازي في مركز الشرطة الإسبانية صباح الثاني عشر من شهر أوت الفارط.
كم جُلت بخيالي على هذا السرير الهزيل وبطّانياته العفنة وأعدت عقارب الساعة إلى الوراء، حيث تصرّفت بشكل مغاير لما حدث..فمثلاً لم أذهب أصلاً لمركز الشرطة لتجديد إقامتي.. بل ذهبت وربما كان بإمكاني القيام بثورة وحدي من أجل رفض الترحيل من إسبانيا لهذا القبر المظلم..في هذا السفر عبر الزمن أعود بذاكرتي لمشاهد تضامن المناضلين معي و حديثي مع بعضهم عبر الهاتف من مركز الإحتجاز..ولكن قبل ذلك هل كان أحدٌ ما يعرف اقتراب موعد القدر الذي ألمّ بي ولم يخبرني؟ هل أُرسل أحدهم لمراقبتي و تسهيل الإجهاز عليّ وترحيلي؟
ليس بين هذه الجدران العارية ومابين سقف الزنزانة وأرضيتها ما يشفي الروح من أي كآبة؛ اللجوء إلى الإتكاء على هذا السرير الوضيع للاستغراق في التأمّلات أصبحت فكرة تقادمت مفعولها مع مرور الأيام و الليالي الحالكات.. فلا شيء يحدث بحق عندما أستغرق في سويداء ذاتي: تنتابني مشاعر الخوف من المجهول، أفكّر في حسان وصارة وخديجة..ترى كيف مرّت عليهم كل هذه الأشهر، وهل هم بصحة جيّدة..ماذا عن الوالدين و إخوتي..لابد أنّ ما حدث لي كان نكسة دهست حياتهم وانشطرت أفئدتهم..يا رحيم كن مع جميع الذين يهمّني أمرهم ويهمّهم أمري فلا حول و لاقوّة لي لمعرفة ما يلمّ بهم من حزن وجزع وآلام..وكّلتك يا الله أمرهم و لتمنحني الرضا على ما كتبت عليّ وقدّرت..
في لحظة انقلب كلّ شيء وانقطعتُ عن هذا العالم المحتدم المتسارع..ليس هنا انشغال بأي شيء باستثناء مطاردة الوقت..لا تواصل إجتماعي و لا أخبار ولا جديد إلا لحظات خاطفة عند إحضار الطعام الرديء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، أو بعض السجائر الرخيصة التي أصبحت منّة من السجّان تضاهي نعمة من النعم المفقودة.
وبين لحظات الطعام و أوقات الصلاة..يستفيق ذهني في سلسلة تتأرجح من الأسف والالتياع وصولاً إلى الأمل و الصمود..تلاحقني من أفكار اليقظة إلى كوابيس النوم و رؤاه الحالمة.
آسف على نفسي التي تهاجمني بمشاهد متلاحقة من طبيعة “لو” فعلت كذا لكان كذا.. ولماذا وهل.. وكيف سيكون لو كنت أين لعلّ.. ثم تتغشاني أمنة النعاس و أنام و تضمّني أحلام سعيدة وأستيقظ ولم يتغيّر شيء في الواقع..بل مازال النهار مهيمناً ولمّا يرخي الليلّ عليّ نهاري سدوله بعدُ..
وهكذا بهذه الرتابة الثقيلة..أهبط إلى أدنى هواجسي ويلهمني الله الكريم رحمته التي تصعد بي إلى أعلى درجات اليقين و الصبر فيصبح السجن كأنّه واحة غنّاء للتأملات عبر ذكريات خلت في النضال و الوقفات..وتذكّرت قول إيليا أبي ماضي:
في المنزل المهجور أذكركم فأخالني في جنّة الخلدِ
أنتم معي في كلّ آونةٍ و النّاس تحسب أنني وحدي
ويطوف طائف الليل و يحاصرني ظلامه و أتذكّر تضحيات أجدادنا الأبطال في سجون الإستعمار..أتذكّر القهر الذي كسر بعضهم و انكسر على صخور صبرهم..أفكّر في كل أحرار العالم الذين عبروا على هذا الطريق ووصلوا إلى نهايته بانتصار…فكم كتمت جدران الزنازين من صرخة حرّة لأبطال شعبنا على مرّ عصور نضاله وخاصةً في عهد الإستعمار و ثورة الحراك..
لكني أتذكّر من جديد ما حدث لي من أول لحظة أوقفت فيها..والتحويلات التي مررت بها والتسفير عبر البحر المتوسّط..والإهانات المتواصلة، و التعذيب في دهاليز المخابرات..و المنع من النوم و الصراخ و السب..وكسر الكرامة بالتعرية و الإعتداءات و المساومات وضغوط الإبتزاز..الداخل لهذه السجون يكتشف أنّ العدالة قد ماتت على عتباتها من زمان كما ماتت خارج أسوار السجن..وكل الرداءة المتفشيّة في البلاد هي أضعاف مضاعفة داخل السجن وخاصة هذا الذي يهيمن عليه العسكر من كفر وفسوق وكذب و تدليس و تلفيق وضرب و اعتداء تنتحر معه كل معاني النبل و الإنسانية…
لقد صرختُ أمام القاضي مؤخراً عن كلّ هذا رغم علمي بأنّ ضميره قد تعقّم منذ مدّة تجاه أي شكوى ضد العسكر..فأنا لم أعلم أنّ أهلي قد وكّلوا عليّ من خيرة المحامين في البلاد..وكلّ ما جرى من زيارات بيني وبين أهلي كانت تحت المراقبة اللصيقة التي حالت بيني وبين معرفة تطوّرات قضيتي داخل البلاد و خارجها..كلّ هذا امتداد لأنواع صنوف القهر والتعسّف التي عليّ.. كان عليّ أن أتعايش معها منذ إعادتي إلى الجزائر وخاصة خلال خمسين يوماً الأخيرة من الصراع الداخلي و الخارجي في الحبس الانفرادي:
ليس لديّ ورقٌ، و لا قلمْ
لكنني.. من شدّة الحرّ، و من مرارة الألم
يا أصدقائي.. لم أنمْ
فقلت: ماذا لو تسامرتُ مع الأشعارْ
و زارني من كوّةِ الزنزانةِ السوداء
لا تستخفّوا.. زارني وطواط
وراح..؛ في نشاط
يُقبّل الجدران في زنزانتي السوداء
و قلتْ: يا الجريء في الزُوّارْ
حدّث !.. أما لديك عن عالمنا أخبار ؟..؟!
فإنني يا سيدي، من مدّةٍ
لم أقرأ الصحف هنا.. لم أسمع الأخبارْ
حدث عن الدنيا، عن الأهل، عن الأحباب
لكنه بلا جواب!
صفّق بالأجنحة السوداء عبر كُوّتي.. و طارْ..
و صحت: يا الغريب في الزوّار
مهلاً ! ألا تحمل أنبائي إلى الأصحاب ؟..
***
من شدة الحرّ، من البقّ، من الألمْ
يا أصدقائي.. لم أنمْ
و الحارس المسكين، ما زال وراء البابْ
ما زال .. في رتابةٍ يُنَقّل القدمْ
مثليَ لم ينمْ
كأنّه مثليَ، محكوم بلا أسبابْ
***
أسندت ظهري للجدارْ
مُهدّماً.. و غصت في دوّامةٍ بلا قرارْ
و التهبتْ في جبهتي الأفكارْ
***
أُماه! كم يحزنني!
أنكِ، من أجليَ في ليلٍ من العذاب
تبكين في صمتٍ متى يعودْ
من شغلهم إخوتيَ الأحبابْ
و تعجزين عن تناول الطعامْ
و مقعدي خالٍ.. فلا ضِحْكٌ.. و لا كلامْ
أماه! كم يؤلمني!
أنكِ تجهشين بالبكاء
إذا أتى يسألكم عنّيَ أصدقاء
لكنني.. أؤمن يا أُماه
أؤمن.. .. أن روعة الحياة
تولد في معتقلي
أؤمن أن زائري الأخير.. لن يكونْ
خفّاش ليلٍ.. مدلجاً، بلا عيون
لا بدّ.. أن يزورني النهارْ
و ينحني السجان في انبهارْ
و يرتمي.. و يرتمي معتقلي
مهدّماً.. لهيبهُ النهارْ**
تقمّصها:
حمدان بن عثمان خوجة
لميمة راهي مغبونه ** على وليدها مسكين
زدمو داوني مالحومة ** ولينا معتقلين
مازال واقفين يا عصابة ** والله مانا حابسين
*أحمد مطر
**سميح القاسم